الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)
.بَابٌ فِي حُكْمِ الْمُرْتَدِّ: فَقَالَ الْجُمْهُورُ: تُقْتَلُ الْمَرْأَةُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُقْتَلُ وَشَبَّهَهَا بِالْكَافِرَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَالْجُمْهُورُ اعْتَمَدُوا الْعُمُومَ الْوَارِدَ فِي ذَلِكَ، وَشَذَّ قَوْمٌ، فَقَالُوا: تُقْتَلُ وَإِنْ رَاجَعَتِ الْإِسْلَامَ. وَأَمَّا الِاسْتِتَابَةُ فَإِنَّ مَالِكًا شَرَطَ فِي قَتْلِهِ ذَلِكَ عَلَى مَا رَوَاهُ عَنْ عُمَرَ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ. وَأَمَّا إِذَا حَارَبَ الْمُرْتَدُّ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِالْحِرَابَةِ وَلَا يُسْتَتَابُ، كَانَتْ حِرَابَتُهُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ بَعْدَ أَنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ. وَأَمَّا إِذَا أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ الْمُحَارِبُ بَعْدَ أَنْ أُخِذَ أَوْ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ، فَإِنَّهُ يُخْتَلَفُ فِي حُكْمِهِ، فَإِنْ كَانَتْ حِرَابَتُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ عِنْدَ مَالِكٍ كَالْحَرْبِيِّ يُسْلِمُ لِاتِّبَاعِهِ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِمَّا فَعَلَ فِي حَالِ ارْتِدَادِهِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ حِرَابَتُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ يُسْقِطُ إِسْلَامُهُ عَنْهُ حُكْمَ الْحِرَابَةِ خَاصَّةً، وَحُكْمُهُ فِيمَا جَنَى حُكْمُ الْمُرْتَدِّ إِذَا جَنَى فِي رِدَّتِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِيهِ، فَقَالَ: حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُرْتَدِّ مَنِ اعْتَبَرَ يَوْمَ الْجِنَايَةِ، وَقَالَ: حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُسْلِمِ مَنِ اعْتَبَرَ يَوْمَ الْحُكْمِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي حُكْمِ السَّاحِرِ، فَقَالَ مَالِكٌ: يُقْتَلُ كُفْرًا، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يُقْتَلُ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يُقْتَلَ إِلَّا مَعَ الْكُفْرِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. .كِتَابُ الْأَقْضِيَةِ: أَحَدُهَا: فِي مَعْرِفَةِ مَنْ يَجُوزُ قَضَاؤُهُ. وَالثَّانِي: فِي مَعْرِفَةِ مَا يَقْضِي بِهِ. وَالثَّالِثُ: فِي مَعْرِفَةِ مَا يَقْضِي فِيهِ. وَالرَّابِعُ: فِي مَعْرِفَةِ مَنْ يَقْضِي عَلَيْهِ أَوْ لَهُ. وَالْخَامِسُ: فِي كَيْفِيَّةِ الْقَضَاءِ. وَالسَّادِسُ: فِي وَقْتِ الْقَضَاءِ. .الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْرِفَةِ مَنْ يَجُوزُ قَضَاؤُهُ: وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْحُرِّيَّةِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَلَا خِلَافَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْكَلَامَ مُشْتَرَطَةٌ فِي اسْتِمْرَارِ وِلَايَتِهِ وَلَيْسَ شَرْطًا فِي جَوَازِ وِلَايَتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ صِفَاتِ الْقَاضِي فِي الْمَذْهَبِ مَا هِيَ شَرْطٌ فِي الْجَوَازِ، فَهَذَا إِذَا وُلِّيَ عُزِلَ وَفُسِخَ جَمِيعُ مَا حَكَمَ بِهِ وَمِنْهَا مَا هِيَ شَرْطٌ فِي الِاسْتِمْرَارِ وَلَيْسَتْ شَرْطًا فِي الْجَوَازِ، فَهَذَا إِذَا وَلِيَ الْقَضَاءَ عُزِلَ وَنَفَذَ مَا حَكَمَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ جَوْرًا. وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ عِنْدَهُمْ هَذِهِ الثَّلَاثُ صِفَاتٍ. وَمِنْ شَرْطِ الْقَضَاءِ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا. وَالشَّافِعِيُّ يُجِيزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمِصْرِ قَاضِيَانِ اثْنَانِ إِذَا رُسِمَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَحْكُمُ فِيهِ، وَإِنْ شُرِطَ اتِّفَاقُهُمَا فِي كُلِّ حُكْمٍ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ شُرِطَ الِاسْتِقْلَالُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَوَجْهَانِ: الْجَوَازُ وَالْمَنْعُ، قَالَ: وَإِذَا تَنَازَعَ الْخَصْمَانِ فِي اخْتِيَارِ أَحَدِهِمَا وَجَبَ أَنْ يَقْتَرِعَا عِنْدَهُ. وَأَمَّا فَضَائِلُ الْقَضَاءِ فَكَثِيرَةٌ، وَقَدْ ذَكَرَهَا النَّاسُ فِي كُتُبِهِمْ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْأُمِّيِّ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا؟ وَالْأَبْيَنُ جَوَازُهُ لِكَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُمِّيًّا، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ الْقَوْلَانِ جَمِيعًا، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَاصًّا بِهِ لِمَوْضِعِ الْعَجْزِ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ حُكْمِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ، وَتَوْلِيَتُهُ لِلْقَاضِي شَرْطٌ فِي صِحَّةِ قَضَائِهِ لَا خِلَافَ أَعْرِفُ فِيهِ. وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي نُفُوذِ حُكْمِ مَنْ رَضِيَهُ الْمُتَدَاعِيَانِ مِمَّنْ لَيْسَ بِوَالٍ عَلَى الْأَحْكَامِ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا يَجُوزُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ إِذَا وَافَقَ حُكْمُهُ حُكْمَ قَاضِي الْبَلَدِ. .الْبَابُ الثَّانِي: فِي مَعْرِفَةِ مَا يُقْضَى بِهِ: فِيهِ خِلَافٌ، وَكَذَلِكَ هَلْ يَسْتَخْلِفُ؟ فِيهِ خِلَافٌ فِي الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ، وَلَيْسَ يَنْظُرُ فِي الْجُبَاةِ وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوُلَاةِ، وَيَنْظُرُ فِي التَّحْجِيرِ عَلَى السُّفَهَاءِ عِنْدَ مَنْ يَرَى التَّحْجِيرَ عَلَيْهِمْ. وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْبَابِ هَلْ مَا يَحْكُمُ فِيهِ الْحَاكِمُ نِحْلَةٌ لِلْمَحْكُومِ لَهُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهِ حَلَالًا؟ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ الظَّاهِرِ الَّذِي يَعْتَرِيهِ لَا يُحِلُّ حَرَامًا وَلَا يُحَرِّمُ حَلَالًا، وَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ». وَاخْتَلَفُوا فِي حَلِّ عِصْمَةِ النِّكَاحِ أَوْ عَقْدِهِ بِالظَّاهِرِ الَّذِي يَظُنُّ الْحَاكِمُ أَنَّهُ حَقٌّ وَلَيْسَ بِحَقٍّ، إِذْ لَا يَحِلُّ حَرَامٌ، وَلَا يَحْرُمُ حَلَالٌ بِظَاهِرِ حُكْمِ الْحَاكِمِ دُونَ أَنْ يَكُونَ الْبَاطِنُ كَذَلِكَ هَلْ يَحِلُّ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْأَمْوَالُ وَالْفُرُوجُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، لَا يُحِلُّ حُكْمُ الْحَاكِمِ مِنْهَا حَرَامًا وَلَا يُحَرِّمُ حَلَالًا، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَا زُورٍ فِي امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ أَنَّهَا زَوْجَةٌ لِرَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ لَيْسَتْ لَهُ بِزَوْجَةٍ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا تَحِلُّ لَهُ وَإِنْ أَحَلَّهَا الْحَاكِمُ بِظَاهِرِ الْحُكْمِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ: تَحِلُّ لَهُ. فَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ عُمُومُ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَشُبْهَةُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْحُكْمَ بِاللِّعَانِ ثَابِتٌ بِالشَّرْعِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ أَحَدَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ كَاذِبٌ، وَاللِّعَانُ يُوجِبُ الْفُرْقَةَ، وَيُحَرِّمُ الْمَرْأَةَ عَلَى زَوْجِهَا الْمُلَاعِنِ لَهَا وَيُحِلُّهَا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْكَاذِبَ فَلَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتْ هِيَ الْكَاذِبَةَ، لِأَنَّ زِنَاهَا لَا يُوجِبُ فُرْقَتَهَا عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَالْجُمْهُورُ أَنَّ الْفُرْقَةَ هَاهُنَا إِنَّمَا وَقَعَتْ عُقُوبَةً لِلْعِلْمِ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ. .الْبَابُ الثَّالِثُ فِيمَا يَكُونُ بِهِ الْقَضَاءُ: .الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الشَّهَادَةِ: .[صِفَاتُ الشُّهُودِ]: أَمَّا الْعَدَالَةُ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى اشْتِرَاطِهَا فِي قَبُولِ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَاخْتَلَفُوا فِيمَا هِيَ الْعَدَالَةُ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هِيَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُلْتَزِمًا لِوَاجِبَاتِ الشَّرْعِ وَمُسْتَحِبَّاتِهِ، مُجْتَنِبًا لِلْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَكْفِي فِي الْعَدَالَةِ ظَاهِرُ الْإِسْلَامِ، وَأَنْ لَا تُعْلَمَ مِنْهُ جَرْحَةٌ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ كَمَا قُلْنَا تَرَدُّدُهُمْ فِي مَفْهُومِ اسْمِ الْعَدَالَةِ الْمُقَابِلَةِ لِلْفِسْقِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْفَاسِقِ لَا تُقْبَلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} الْآيَةَ. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الْفَاسِقَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إِذَا عُرِفَتْ تَوْبَتُهُ، إِلَّا مَنْ كَانَ فِسْقُهُ مِنْ قَبْلِ الْقَذْفِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَإِنْ تَابَ. وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ: تُقْبَلُ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ هَلْ يَعُودُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ إِلَيْهِ، أَوْ عَلَى الْجُمْلَةِ إِلَّا مَا خَصَّصَهُ الْإِجْمَاعُ، وَهُوَ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تُسْقِطُ عَنْهُ الْحَدَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا. وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ حَيْثُ تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ. وَاخْتَلَفُوا فِي شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْجِرَاحِ وَفِي الْقَتْلِ، فَرَدَّهَا جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ لِمَا قُلْنَاهُ مِنْ وُقُوعِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ الشَّهَادَةِ الْعَدَالَةَ، وَمِنْ شَرْطِ الْعَدَالَةِ الْبُلُوغَ، وَلِذَلِكَ لَيْسَتْ فِي الْحَقِيقَةِ شَهَادَةٌ عِنْدَ مَالِكٍ، وَإِنَّمَا هِيَ قَرِينَةُ حَالٍ، وَلِذَلِكَ اشْتَرَطَ فِيهَا أَنْ لَا يَتَفَرَّقُوا لِئَلَّا يَجْبُنُوا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ هَلْ تَجُوزُ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمْ كَبِيرٌ أَمْ لَا؟ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِدَّةُ الْمُشْتَرَطَةُ فِي الشَّهَادَةِ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهَا الذُّكُورَةُ أَمْ لَا؟ وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ تَجُوزُ فِي الْقَتْلِ الْوَاقِعِ بَيْنَهُمْ؟ وَلَا عُمْدَةَ لِمَالِكٍ فِي هَذَا إِلَّا أَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِذَا احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِهَذَا قِيلَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ رَدَّهَا، وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهَا، وَقَالَ بِقَوْلِ مَالِكٍ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَقَوْمٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَإِجَازَةُ مَالِكٍ لِذَلِكَ هُوَ مِنْ بَابِ إِجَازَتِهِ قِيَاسَ الْمَصْلَحَةِ. وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ فِي الْقَبُولِ، وَأَنَّهُ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْكَافِرِ، إِلَّا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الْآيَةَ. فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى الشُّرُوطِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَرَأَوْا أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ. وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ، فَإِنَّ جُمْهُورَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى اشْتِرَاطِهَا فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: تَجُوزُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ إِنَّمَا هُوَ اشْتِرَاطُ الْعَدَالَةِ، وَالْعُبُودِيَّةُ لَيْسَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي الرَّدِّ، إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ، وَكَأَنَّ الْجُمْهُورَ رَأَوْا أَنَّ الْعُبُودِيَّةَ أَثَرٌ مِنْ أَثَرِ الْكُفْرِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ. وَأَمَّا التُّهْمَةُ الَّتِي سَبَبُهَا الْمَحَبَّةُ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ فِي إِسْقَاطِ الشَّهَادَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْعَدْلِ بِالتُّهْمَةِ لِمَوْضِعِ الْمَحَبَّةِ أَوِ الْبِغْضَةِ الَّتِي سَبَبُهَا الْعَدَاوَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ، فَقَالَ بِرَدِّهَا فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، إِلَّا أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا فِي مَوَاضِعَ عَلَى إِعْمَالِ التُّهْمَةِ، وَفِي مَوَاضِعَ عَلَى إِسْقَاطِهَا، وَفِي مَوَاضِعَ اخْتَلَفُوا فِيهَا فَأَعْمَلَهَا بَعْضُهُمْ وَأَسْقَطَهَا بَعْضُهُمْ. فَمِمَّا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ رَدُّ شَهَادَةِ الْأَبِ لِابْنِهِ وَالِابْنِ لِأَبِيهِ، وَكَذَلِكَ الْأُمُّ لِابْنِهَا، وَابْنُهَا لَهَا. وَمِمَّا اخْتَلَفُوا فِي تَأْثِيرِ التُّهْمَةِ فِي شَهَادَتِهِمْ شَهَادَةُ الزَّوْجَيْنِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ، فَإِنَّ مَالِكًا رَدَّهَا وَأَبَا حَنِيفَةَ، وَأَجَازَهَا الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: تُقْبَلُ شَهَادَةُ الزَّوْجِ لِزَوْجِهِ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا لَهُ، وَبِهِ قَالَ: النَّخَعِيُّ. وَمِمَّا اتَّفَقُوا عَلَى إِسْقَاطِ التُّهْمَةِ فِيهِ شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ مَا لَمْ يَدْفَعْ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ عَارًا عَلَى مَا قَالَ مَالِكٌ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مُنْقَطِعًا إِلَى أَخِيهِ يَنَالُهُ بِرُّهُ وَصِلَتُهُ، مَا عَدَا الْأَوْزَاعِيَّ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا تَجُوزُ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا تُقْبَلُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُقْبَلُ. فَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ بِالتُّهْمَةِ مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ» وَمَا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ بَدَوِيٍّ عَلَى حَضَرِيٍّ»، لِقِلَّةِ شُهُودِ الْبَدَوِيِّ مَا يَقَعُ فِي الْمِصْرِ، فَهَذِهِ هِيَ عُمْدَتُهُمْ مِنْ طَرِيقِ السَّمَاعِ. وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى فَلِمَوْضِعِ التُّهْمَةِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ تَأْثِيرَهَا فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِثْلُ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ يَرِثُ الْقَاتِلُ الْمَقْتُولَ، وَعَلَى تَوْرِيثِ الْمَبْتُوتَةِ فِي الْمَرَضِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ. وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ (وَهُمْ شُرَيْحٌ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ) فَإِنَّهُمْ قَالُوا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَبِ لِابْنِهِ فَضْلًا عَمَّنْ سِوَاهُ إِذَا كَانَ الْأَبُ عَدْلًا. وَعُمْدَتُهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي إِجْزَاءَ الْمَأْمُورِ بِهِ إِلَّا مَا خَصَّصَهُ الْإِجْمَاعُ مِنْ شَهَادَةِ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ. وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ، فَإِنَّ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا رَدُّ الشَّهَادَةِ بِالْجُمْلَةِ إِنَّمَا هُوَ لِمَوْضِعِ اتِّهَامِ الْكَذِبِ، وَهَذِهِ التُّهْمَةُ إِنَّمَا اعْتَمَلَهَا الشَّرْعُ فِي الْفَاسِقِ وَمَنَعَ إِعْمَالَهَا فِي الْعَادِلِ، فَلَا تَجْتَمِعُ الْعَدَالَةُ مَعَ التُّهْمَةِ. .[عَدَدُ الشُّهُودِ فى القضاء وَجِنْسُهُمْ]: وَأَمَّا شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُفْرَدَاتٍ (أَعْنِي: النِّسَاءَ دُونَ الرِّجَالِ) فَهِيَ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِي حُقُوقِ الْأَبْدَانِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ غَالِبًا مِثْلَ الْوِلَادَةِ وَالِاسْتِهْلَالِ وَعُيُوبِ النِّسَاءِ. وَلَا خِلَافَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا إِلَّا فِي الرَّضَاعِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: لَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَتُهُنَّ إِلَّا مَعَ الرِّجَالِ، لِأَنَّهُ عِنْدَهُ مِنْ حُقُوقِ الْأَبْدَانِ الَّتِي يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. وَالَّذِينَ قَالُوا بِجَوَازِ شَهَادَتِهِنَّ مُفْرَدَاتٍ فِي هَذَا الْجِنْسِ اخْتَلَفُوا فِي الْعَدَدِ الْمُشْتَرَطِ فِي ذَلِكَ مِنْهُنَّ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَكْفِي فِي ذَلِكَ امْرَأَتَانِ، قِيلَ مَعَ انْتِشَارِ الْأَمْرِ، وَقِيلَ إِنْ لَمْ يَنْتَشِرْ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ يَكْفِي فِي ذَلِكَ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعٍ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ جَعَلَ عَدِيلَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ امْرَأَتَيْنِ، وَاشْتَرَطَ الِاثْنَيْنِيَّةَ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَكْتَفِي بِذَلِكَ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثٍ وَهُوَ قَوْلٌ لَا مَعْنَى لَهُ، وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ فِيمَا بَيْنُ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ الظَّاهِرِيَّةَ أَوْ بَعْضُهُمْ لَا يُجِيزُونَ شَهَادَةَ النِّسَاءِ مُفْرَدَاتٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ كَمَا يُجِيزُونَ شَهَادَتَهُنَّ مَعَ الرِّجَالِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَأَمَّا شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ بِالرَّضَاعِ، فَإِنَّهُمْ أَيْضًا اخْتَلَفُوا فِيهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي شَهِدَتْ بِالرَّضَاعِ: «كَيْفَ وَقَدْ أَرْضَعَتْكُمَا»، وَهَذَا ظَاهِرُهُ الْإِنْكَارُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ فِي أَنَّهُ مَكْرُوهٌ. .الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الْيَمِينِ: وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَثْبُتُ بِهَا حَقُّ الْمُدَّعِي، فَقَالَ مَالِكٌ: يَثْبُتُ بِهَا حَقُّ الْمُدَّعِي فِي إِثْبَاتِ مَا أَنْكَرَهُ الْمُدَّعِي عَلَيْهِ وَإِبْطَالِ مَا ثَبَتَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ إِذَا ادَّعَى الَّذِي ثَبَتَ عَلَيْهِ إِسْقَاطَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ الْمُدَّعِي أَقْوَى سَبَبًا وَشُبْهَةً مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: غَيْرُهُ لَا تَثْبُتُ لِلْمُدَّعِي بِالْيَمِينِ دَعْوًى سَوَاءٌ كَانَتْ فِي إِسْقَاطِ حَقٍّ عَنْ نَفْسِهِ قَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ، أَوْ إِثْبَاتِ حَقٍّ أَنْكَرَهُ فِيهِ خَصْمُهُ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ تَرَدُّدُهُمْ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ»، هَلْ ذَلِكَ عَامٌّ فِي كُلِّ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَمُدَّعٍ، أَمْ إِنَّمَا خُصَّ الْمُدَّعِي بِالْبَيِّنَةِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْيَمِينِ، لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ فِي الْأَكْثَرِ هُوَ أَضْعَفُ شُبْهَةً مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِخِلَافِهِ؟ فَمَنْ قَالَ: هَذَا الْحُكْمُ عَامٌّ فِي كُلِّ مُدَّعٍ وَمُدَّعًى عَلَيْهِ وَلَمْ يُرِدْ بِهَذَا الْعُمُومِ خُصُوصًا، قَالَ: لَا يَثْبُتُ بِالْيَمِينِ حَقٌّ، وَلَا يَسْقُطُ بِهِ حَقٌّ ثَبَتَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّمَا خُصَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِهَذَا الْحُكْمِ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ أَقْوَى شُبْهَةً، قَالَ: إِذَا اتُّفِقَ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعٌ تَكُونُ فِيهِ شُبْهَةُ الْمُدَّعِي أَقْوَى يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ. وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِالْمَوَاضِعِ الَّتِي اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ فِيهَا عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ فِيهَا قَوْلُ الْمُدَّعِي مَعَ يَمِينِهِ، مِثْلَ دَعْوَى التَّلَفِ فِي الْوَدِيعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِنْ وُجِدَ شَيْءٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَلِأُولَئِكَ أَنْ يَقُولُوا: الْأَصْلُ مَا ذَكَرْنَا إِلَّا مَا خَصَّصَهُ الِاتِّفَاقُ. وَكُلُّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ الَّتِي تُسْقِطُ الدَّعْوَى أَوْ تُثْبِتُهَا هِيَ الْيَمِينُ بِاللَّهِ، الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَقَاوِيلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي صِفَتِهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَهِيَ عِنْدَ مَالِكٍ: بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا، وَيَزِيدُ الشَّافِعِيُّ الَّذِي يَعْلَمُ مِنَ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنَ الْعَلَانِيَةِ. وَأَمَّا هَلْ تُغَلَّظُ بِالْمَكَانِ؟ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهَا تُغَلَّظُ بِالْمَكَانِ وَذَلِكَ فِي قَدْرٍ مَخْصُوصٍ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ، فَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّ مَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، فَإِنْ كَانَ مَسْجِدَ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ فَفِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا حَيْثُ اتَّفَقَ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَالْأُخْرَى عِنْدَ الْمِنْبَرِ. وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يَحْلِفُ فِيمَا لَهُ بَالٌ فِي الْجَامِعِ وَلَمْ يُحَدِّدْ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَحْلِفُ فِي الْمَدِينَةِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَفِي مَكَّةَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُ فِي كُلِّ بَلَدٍ يَحْلِفُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَالنِّصَابُ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ عِشْرُونَ دِينَارًا، وَقَالَ دَاوُدُ: يَحْلِفُ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُغَلَّظُ الْيَمِينُ بِالْمَكَانِ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ هَلِ التَّغْلِيظُ الْوَارِدُ فِي الْحَلِفِ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْهَمُ مِنْهُ وُجُوبُ الْحَلِفِ عَلَى الْمِنْبَرِ أَمْ لَا؟ فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ ذَلِكَ قَالَ: لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلتَّغْلِيظِ فِي ذَلِكَ مَعْنًى، وَمَنْ قَالَ: لِلتَّغْلِيظِ مَعْنًى غَيْرُ الْحُكْمِ بِوُجُوبِ الْيَمِينِ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ: لَا يَجِبُ الْحَلِفُ عَلَى الْمِنْبَرِ. وَالْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِي التَّغْلِيظِ هُوَ حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي آثِمًا تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِالْعَمَلِ فَقَالُوا: هُوَ عَمَلُ الْخُلَفَاءِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِالْمَدِينَةِ وَبِمَكَّةَ. قَالُوا: وَلَوْ كَانَ التَّغْلِيظُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِيجَابُ الْيَمِينِ فِي الْمَوْضِعِ الْمُغَلَّظِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ إِلَّا تَجَنَّبَ الْيَمِينَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. قَالُوا: وَكَمَا أَنَّ التَّغْلِيظَ الْوَارِدَ فِي الْيَمِينِ مُجَرَّدٌ، مِثْلَ قَوْلِهِ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ» يُفْهَمُ مِنْهُ وُجُوبُ الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ، وَكَذَلِكَ التَّغْلِيظُ الْوَارِدُ فِي الْمَكَانِ. وَقَالَ الْفَرِيقُ الْآخَرُ: لَا يُفْهَمُ مِنَ التَّغْلِيظِ بِالْيَمِينِ وُجُوبُ الْحُكْمِ بِالْيَمِينِ، وَإِذْ لَمْ يُفْهَمْ مِنْ تَغْلِيظِ الْيَمِينِ وُجُوبُ الْحُكْمِ بِالْيَمِينِ لَمْ يُفْهَمْ مِنْ تَغْلِيظِ الْيَمِينِ بِالْمَكَانِ وُجُوبُ الْيَمِينِ بِالْمَكَانِ وَلَيْسَ فِيهِ إِجْمَاعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ مَفْهُومٌ مِنْ قَضِيَّةِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. وَتُغَلَّظُ بِالْمَكَانِ عِنْدَ مَالِكٍ فِي الْقَسَامَةِ وَاللِّعَانِ، وَكَذَلِكَ بِالزَّمَانِ، لِأَنَّهُ قَالَ: فِي اللِّعَانِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى مَا جَاءَ فِي التَّغْلِيظِ فِيمَنْ حَلَفَ بَعْدَ الْعَصْرِ. وَأَمَّا الْقَضَاءُ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَدَاوُدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ الْمَدَنِيُّونَ وَجَمَاعَةٌ: يُقْضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فِي الْأَمْوَالِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِرَاقِ: لَا يُقْضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فِي شَيْءٍ، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ فِي هَذَا الْبَابِ تَعَارُضُ السَّمَاعِ. أَمَّا الْقَائِلُونَ بِهِ فَإِنَّهُمْ تَعَلَّقُوا فِي ذَلِكَ بِآثَارٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَحَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ، إِلَّا أَنَّ الَّذِي خَرَّجَ مُسْلِمٌ مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَفْظُهُ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَلَمْ يُخَرِّجْهُ الْبُخَارِيُّ. وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّمَا اعْتَمَدَ مُرْسَلَهُ فِي ذَلِكَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ»، لِأَنَّ الْعَمَلَ عِنْدَهُ بِالْمَرَاسِيلِ وَاجِبٌ. وَأَمَّا السَّمَاعُ الْمُخَالِفُ لَهَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} قَالُوا: وَهَذَا يَقْتَضِي الْحَصْرَ فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ نَسْخٌ، وَلَا يُنْسَخُ الْقُرْآنُ بِالسُّنَّةِ الْغَيْرِ مُتَوَاتِرَةٍ، وَعِنْدَ الْمُخَالِفِ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ بَلْ زِيَادَةٌ لَا تُغَيِّرُ حُكْمَ الْمَزِيدِ. وَأَمَّا مِنَ السُّنَّةِ فَمَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: «كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي شَيْءٍ، فَاخْتَصَمْنَا إِلَى النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ: شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ، فَقُلْتُ: إِذًا يَحْلِفُ وَلَا يُبَالِي، فَقَالَ: النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» قَالُوا: فَهَذَا مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَصْرٌ لِلْحُكْمِ وَنَقْضٌ لِحُجَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا يَسْتَوْفِيَ أَقْسَامَ الْحُجَّةِ لِلْمُدَّعِي. وَالَّذِينَ قَالُوا بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ هُمْ عَلَى أَصْلِهِمْ فِي أَنَّ الْيَمِينَ هِيَ حُجَّةُ أَقْوَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ شُبْهَةً، وَقَدْ قَوِيَتْ هَاهُنَا حُجَّةُ الْمُدَّعِي بِالشَّاهِدِ كَمَا قَوِيَتْ فِي الْقَسَامَةِ. وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا فِي الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الْمَرْأَتَيْنِ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ، لِأَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ قَدْ أُقِيمَتَا مَقَامَ الْوَاحِدِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ لَهُ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا أُقِيمَتْ مَقَامَ الْوَاحِدِ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ لَا مُفْرَدَةً وَلَا مَعَ غَيْرِهِ. وَهَلْ يَقْتَضِي بِالْيَمِينِ فِي الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ حَقٌّ لِلنَّاسِ مِثْلَ الْقَذْفِ وَالْجِرَاحِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي الْمَذْهَبِ. .الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي النُّكُولِ: قَوْلَانِ. فَعُمْدَةُ مَنْ رَأَى أَنْ تَنْقَلِبَ الْيَمِينُ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ مِنْ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ فِي الْقَسَامَةِ الْيَمِينَ عَلَى الْيَهُودِ بَعْدَ أَنْ بَدَأَ بِالْأَنْصَارِ» وَمِنْ حُجَّةِ مَالِكٍ أَنَّ الْحُقُوقَ عِنْدَهُ إِنَّمَا تَثْبُتُ بِشَيْئَيْنِ: إِمَّا بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ، وَإِمَّا بِنُكُولٍ وَشَاهِدٍ، وَإِمَّا بِنُكُولٍ وَيَمِينٍ، أَصْلُ ذَلِكَ عِنْدَهُ اشْتِرَاطُ الِاثْنَيْنِيَّةِ فِي الشَّهَادَةِ، وَلَيْسَ يَقْتَضِي عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِشَاهِدٍ وَنُكُولٍ. وَعُمْدَةُ مَنْ قَضَى بِالنُّكُولِ أَنَّ الشَّهَادَةَ لَمَّا كَانَتْ لِإِثْبَاتِ الدَّعْوَى، وَالْيَمِينَ لِإِبْطَالِهَا وَجَبَ إِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ أَنْ تُحَقَّقَ عَلَيْهِ الدَّعْوَى. قَالُوا: وَأَمَّا نَقْلُهَا مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِلَى الْمُدَّعِي فَهُوَ خِلَافٌ لِلنَّصِّ، لِأَنَّ الْيَمِينَ قَدْ نُصَّ عَلَى أَنَّهَا دَلَالَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَهَذِهِ أُصُولُ الْحُجَجِ الَّتِي يَقْضِي بِهَا الْقَاضِي. وَمِمَّا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ يَقْضِي الْقَاضِي بِوُصُولِ كِتَابِ قَاضٍ آخَرَ إِلَيْهِ، لَكِنَّ هَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ مَعَ اقْتِرَانِ الشَّهَادَةِ بِهِ (أَعْنِي: إِذَا أَشْهَدَ الْقَاضِي الَّذِي يَثْبُتُ عِنْدَهُ الْحُكْمُ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ أَنَّ الْحُكْمَ ثَابِتٌ عِنْدَهُ، أَعْنِي: الْمَكْتُوبَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَرْسَلَهُ إِلَى الْقَاضِي الثَّانِي، فَشَهِدَا عِنْدَ الْقَاضِي الثَّانِي أَنَّهُ كِتَابُهُ، وَأَنَّهُ أَشْهَدَهُمْ بِثُبُوتِهِ)، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ يُكْتَفَى فِيهِ بِخَطِّ الْقَاضِي، وَأَنَّهُ كَانَ بِهِ الْعَمَلُ الْأَوَّلُ. وَاخْتَلَفَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِنْ أَشْهَدَهُمْ عَلَى الْكِتَابَةِ وَلَمْ يَقْرَأْهُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ وَلَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ هَلْ يُقْضَى بِهِ فِي اللُّقَطَةِ دُونَ شَهَادَةٍ، أَمْ لَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ شَهَادَةٍ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: يُقْضَى بِذَلِكَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بُدَّ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ، وَكَذَلِكَ قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَوْلُ مَالِكٍ هُوَ أَجْرَى عَلَى نَصِّ الْأَحَادِيثِ، وَقَوْلُ الْغَيْرِ أَجْرَى عَلَى الْأُصُولِ. وَمِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ قَضَاءُ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ، وَأَنَّهُ إِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ بِضِدِّ عِلْمِهِ لَمْ يَقْضِ بِهِ، وَأَنَّهُ يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي إِقْرَارِ الْخَصْمِ وَإِنْكَارِهِ، إِلَّا مَالِكًا فَإِنَّهُ رَأَى أَنْ يُحْضِرَ الْقَاضِي شَاهِدَيْنِ لِإِقْرَارِ الْخَصْمِ وَإِنْكَارِهِ. وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي تَغْلِيبِ حُجَّةِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى حُجَّةِ الْآخَرِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ، فَقَالَ قَوْمٌ: لَا يُرَدُّ حُكْمُهُ إِذَا لَمْ يَخْرِقِ الْإِجْمَاعَ، وَقَالَ قَوْمٌ إِذَا كَانَ شَاذًّا، وَقَالَ قَوْمٌ: يُرَدُّ إِذَا كَانَ حُكْمًا بِقِيَاسٍ، وَهُنَالِكَ سَمَاعٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ تُخَالِفُ الْقِيَاسَ وَهُوَ الْأَعْدَلُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ تَشْهَدُ لَهُ الْأُصُولُ وَالْكِتَابُ مُحْتَمِلٌ وَالسُّنَّةُ غَيْرُ مُتَوَاتِرَةٍ، وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ مَنْ غَلَّبَ الْقِيَاسَ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ عَلَى الْأَثَرِ مِثْلَ مَا يُنْسَبُ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ بِاتِّفَاقٍ، وَإِلَى مَالِكٍ بِاخْتِلَافٍ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَقْضِي بِعِلْمِهِ عَلَى أَحَدٍ دُونَ بَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ، أَوْ لَا يَقْضِي إِلَّا بِالدَّلِيلِ وَالْإِقْرَارِ القاضي؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ: لَا يَقْضِي إِلَّا بِالْبَيِّنَاتِ أَوِ الْإِقْرَارِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَشُرَيْحٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَالْكُوفِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَجَمَاعَةٌ: لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ، وَلِكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ سَلَفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اعْتَمَدَ فِي قَوْلِهِ السَّمَاعَ وَالنَّظَرَ. أَمَّا عُمْدَةُ الطَّائِفَةِ الَّتِي مَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ، فَمِنْهَا حَدِيثُ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا جَهْمٍ عَلَى صَدَقَةٍ فَلَاحَاهُ رَجُلٌ فِي فَرِيضَةٍ، فَوَقَعَ بَيْنَهُمَا شِجَاجٌ، فَأَتَوُا النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ، فَأَعْطَاهُمُ الْأَرْشَ، ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنِّي خَاطِبٌ النَّاسَ وَمُخْبِرُهُمْ أَنَّكُمْ قَدْ رَضِيتُمْ، أَرَضِيتُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَ النَّاسَ وَذَكَرَ الْقِصَّةَ، وَقَالَ: أَرَضِيتُمْ؟ قَالُوا: لَا، فَهَمَّ بِهِمُ الْمُهَاجِرُونَ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: أَرَضِيتُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ»، قَالَ: فَهَذَا بَيِّنٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِمْ بِعِلْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَلِلتُّهْمَةِ اللَّاحِقَةِ فِي ذَلِكَ لِلْقَاضِي. وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ لِلتُّهْمَةِ تَأْثِيرًا فِي الشَّرْعِ: مِنْهَا أَنْ لَا يَرِثَ الْقَاتِلُ عَمْدًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ مَنْ قَتَلَهُ. وَمِنْهَا رَدُّهُمْ شَهَادَةَ الْأَبِ لِابْنِهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَأَمَّا عُمْدَةُ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ، أَمَّا مِنْ طَرِيقِ السَّمَاعِ فَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ مَعَ زَوْجِهَا أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ حِينَ قَالَ لَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ شَكَتْ أَبَا سُفْيَانَ: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» دُونَ أَنْ يَسْمَعَ قَوْلَ خَصْمِهَا. وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِقَوْلِ الشَّاهِدِ الَّذِي هُوَ مَظْنُونٌ فِي حَقِّهِ فَأَحْرَى أَنْ يَحْكُمَ بِمَا هُوَ عِنْدَهُ يَقِينٌ. وَخَصَّصَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ مَا يَحْكُمُ فِيهِ الْحَاكِمُ بِعِلْمِهِ فَقَالُوا: لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي الْحُدُودِ وَيَقْضِي فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَخَصَّصَ أَيْضًا أَبُو حَنِيفَةَ الْعِلْمَ الَّذِي يَقْضِي بِهِ فَقَالَ: يَقْضِي بِعِلْمِهِ الَّذِي عَلِمَهُ فِي الْقَضَاءِ، وَلَا يَقْضِي بِمَا عَلِمَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَضَى بِعِلْمِهِ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ: يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي الْمَجْلِسِ (أَعْنِي: بِمَا يَسْمَعُ) وَإِنْ لَمْ يُشْهَدْ عِنْدَهُ بِذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ كَمَا قُلْنَا، وَقَوْلُ الْمُغِيرَةِ هُوَ أَجْرَى عَلَى الْأُصُولِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ لَا يَقْضِي إِلَّا بِدَلِيلٍ وَإِنْ كَانَتْ غَلَبَةُ الظَّنِّ الْوَاقِعَةُ بِهِ أَقْوَى مِنَ الظَّنِّ الْوَاقِعِ بِصِدْقِ الشَّاهِدِينَ. .الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي الْإِقْرَارِ: وَأَمَّا عَدَدُ الْإِقْرَارَاتِ الْمُوجِبَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْحُدُودِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ الْإِقْرَارَ مَرَّةً وَاحِدَةً عَامِلٌ فِي الْمَالِ. وَأَمَّا الْمَسَائِلُ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ قِبَلِ احْتِمَالِ اللَّفْظِ، وَأَنْتَ إِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تَقِفَ عَلَيْهِ فَمِنْ كِتَابِ الْفُرُوعِ. .الْبَابُ الرَّابِعُ فِي مَعْرِفَةِ مَنْ يُقْضَى عَلَيْهِ أَوْ لَهُ: وَلِمَنْ يَقْضِي؟ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَقْضِي لِمَنْ لَيْسَ يُتَّهَمُ عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي قَضَائِهِ لِمَنْ يُتَّهَمُ عَلَيْهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ عَلَى مَنْ لَا تَجُوزُ عَلَيْهِ شَهَادَتُهُ، وَقَالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ بِأَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الشَّهَادَةُ. وَأَمَّا عَلَى مَنْ يَقْضِي؟ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَقْضِي عَلَى الْمُسْلِمِ الْحَاضِرِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْغَائِبِ وَفِي الْقَضَاءِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ. فَأَمَّا الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ، فَإِنَّ مَالِكًا، وَالشَّافِعِيَّ قَالَا: يَقْضِي عَلَى الْغَائِبِ الْبَعِيدِ الْغَيْبَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَقْضِي عَلَى الْغَائِبِ أَصْلًا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَقَدْ قِيلَ عَنْ مَالِكٍ: لَا يَقْضِي فِي الرَّبَاعِ الْمُسْتَحَقَّةِ. فَعُمْدَةُ مَنْ رَأَى الْقَضَاءَ حَدِيثُ هِنْدٍ الْمُتَقَدِّمُ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَائِبًا عَنِ الْمِصْرِ. وَعُمْدَةُ مَنْ لَمْ يَرَ الْقَضَاءَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَإِنَّمَا أَقْضِي لَهُ بِحَسَبِ مَا أَسْمَعُ»، وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ حِينَ أَرْسَلَهُ إِلَى الْيَمَنِ: «لَا تَقْضِ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ حَتَّى تَسْمَعَ مِنَ الْآخَرِ». وَأَمَّا الْحُكْمُ عَلَى الذِّمِّيِّ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَقْضِي بَيْنَهُمْ إِذَا تَرَافَعُوا إِلَيْهِ بِحُكْمِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُخَيَّرٌ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ الْقَوْلَانِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَتَحَاكَمُوا إِلَيْهِ. فَعُمْدَةُ مَنِ اشْتَرَطَ مَجِيئَهُمْ لِلْحَاكِمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} وَبِهَذَا تَمَسَّكَ مَنْ رَأَى الْخِيَارَ، وَمَنْ أَوْجَبَهُ اعْتَمَدَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ} وَرَأَى أَنَّ هَذَا نَاسِخٌ لِآيَةِ التَّخْيِيرِ. وَأَمَّا مَنْ رَأَى وُجُوبَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَتَرَافَعُوا، فَإِنَّهُ احْتَجَّ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ إِذَا سَرَقَ قُطِعَتْ يَدُهُ.
|